لست أدري أيها العيد كيف أحييك وأفرح بك فللفرح شروطه، وللفرح طقوسه،
وللفرح رائحته، وهناك فرق بين الفرح وافتعال الفرح.. وصدقني أيها العيد أنني
رغم حزني فإني أحب الفرح.. أحب الفرح في أي مكان، وفي أية بقعة: تحت مئذنة شامخة
في صبح عيد، أو تحت نخلة باسقة شهية الجنى في موسم الجنى، أو تحت شجرة
وفوق رمضاء رمل في بلادي.. ولكن أين لي كل ذلك؟ فهو رغم بساطته ترف لا أحلم به..
في العام الماضي ضحى بوش بكبش العيد على طريقته، وذبحه على طريقته، خنقه خنقاً،
ولكن الكبش قبل أن يخنق كانت له زمجرة الأسد ووقفة الصنديد، فكانت الضحية أكبر من
المضحي وأكثر سرعة إلى سماء التاريخ..
وفي هذا العام تكثر الضحايا وتكثر أيام النحر ولكنها ليست من الكباش.. وإنما هم من الشيوخ،
والعجائز، والأيامى، والأرامل، والأطفال اليتامى، الذين يذبحون يومياً بالطريقة الروتينية
المعتادة، والذين سبق أن ذبح آباؤهم وأمهاتهم منذ سنين على طريقة وأيدي المحتلين والغزاة
في عالمنا العربي والإسلامي البائس الحزين... في هذا الزمن الأسود الرديء، الذي
ارتبكت نواميسه، واختلطت مفاهيمه، وقيمه الأخلاقية، والإنسانية، وانعدمت فيه
نوازع الخير، وسادت شهوات الشر، ونزعات الكراهية والبغضاء، فحل الشر محل الخير،
وارتفع صوت الضلالة والجريمة فوق صوت العدل والرحمة والمحبة.. فأصبح السفاحون
هم البررة، والضحايا والمعذبون في الأرض هم الفجرة، وأصبح صوت الكذب والزيف
والدعاية للقوي المتسلط، فوق صوت الحقيقة.. فوق صوت المستغيثين، والمستضعفين،
والمذبوحين بسكاكين الغدر والمهانة.. صار صوت الدبابة، والمدفع، والطائرة، هو صوت
العدل.. هو صوت الحق في هذا العالم الذي أصبح اشبه بحلم كابوسي متخيل وأقرب منه إلى
عالم الحقيقة والواقع.. فبأي وجه فرح نستقبلك أيها العيد.. وبأي ثوب زهو نحتفل،
وأنت ترانا كما ترى، نعالج البكاء بالبكاء، ونغسل الدموع بالدموع..
لقد بلغت بنا الفاجعة حداً لم يعد البعض منا قادراً فيه على أن يضحك أو يبكي..
لم يعد قادراً على أن يحزن أو يفرح.. فقد تخشبت الأحاسيس، وتيبست غصون النشوة
في دواخلنا، فأصبحنا نمارس الحياة والعيش ببهلوانية تراجيدية بلهاء، وبوجوه ممسوحة
الملامح.. قد يتهم هذا القول بالتشاؤم ولكن صفة التشاؤم تعتبر تهمة رحيمة إذا قيست
بما نحن فيه، وما نحن عليه..
نعم فنحن أيها العيد لا نستطيع أن نعقم دواخلنا بفرح كاذب، ولا يمكن أن نصبغ وجوهنا
بنشوة من دخان الرماد والبارود، ولا يمكن أن يتحول عزف البنادق ولا شظايا القنابل
في صدور الأطفال الهشة ورؤوسهم الغضة إلى سيمفونيات في آذاننا، فنمارس الطرب
والغناء الإجباري.
نعم أيها العيد لا تغضب منا إذا واجهناك بالحقيقة واستقبلناك بفتور، ورحبنا بك بفتور،
لأن حالنا لا تسر، وابتهاجنا وترحيبنا بك سوف يكون ترحيباً منافقاً مفتعلاً..
ما دام هذا وضعنا، وما دام فينا من يمارس احتفاليته وعيده بطريقة تعاديك أنت أيها العيد..
ما دام فينا من يعتبر كل غارة إسرائيلية على أهلنا يوم عيد.. وما دام فينا من يرى كل غزوة
احتلالية فوق أرضنا هي يوم عيد، ما دام فينا من يعتبر التقرب إلى القاتل والمحتل نوعاً من
أنواع الفخر والاعتزاز.. ما دام فينا من يعتبر اهانة الدين، وشتم العروبة، نوعاً من أنواع
الفضيلة التي تقربه إلى البيت الأبيض زلفى..
ولكن من يدري.. فلا يأس، ولا قنوط من رحمة الله، فقد تأتينا يوماً وعلى صهيلك،
وفوق صهوتك، شيء من فرح أبيض.. لحظتها سوف نحتفل بك ونحييك.. سنقول مرحباً بك..
وسنقول لوعاظ البيت الأبيض ألا ساءت وشاهت وجوهكم ومواعظكم..!